سورة يونس - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)}
قوله جل جلاله: {الر} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وعاصم {الر} بفتح الراء على التفخيم، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويحيى عن أبي بكر: بكسر الراء على الإمالة.
وروي عن نافع وابن عامر وحماد عن عاصم، بين الفتح والكسر، واعلم أن كلها لغات صحيحة.
قال الواحدي: الأصل ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو ما ولا، لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء، وأما من أمال فلأن هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصوصة، فقصد بذكر الإمالة التنبيه على أنها أسماء لا حروف.
المسألة الثانية: اتفقوا على أن قوله: {الر} وحده ليس آية، واتفقوا على أن قوله: {طه} [طه: 1] وحده آية. والفرق أن قوله: {الر} لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله: {طه} فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده.
المسألة الثالثة: الكلام المستقصى في تفسير هذا النوع من الكلمات قد تقدم في أول سورة البقرة إلا أنا نذكر هاهنا أيضاً بعض ما قيل.
قال ابن عباس {الر} معناه أنا الله أرى. وقيل أنا الرب لا رب غيري. وقيل {الر} و{حم} [السجدة: 1] و{ن} [القلم: 1] اسم الرحمن.
قوله تعالى: {تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: {تِلْكَ} يحتمل أن يكون إشارة إلى ما في هذه السورة من الآيات، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن، وأيضاً فالكتاب الحكيم يحتمل أن يكون المراد منه هو القرآن، ويحتمل أن يكون المراد منه غير القرآن، وهو الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي منه نسخ كل كتاب، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِي كتاب مَّكْنُونٍ} [الواقعة: 77، 78] وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 22] وقال: {وَإِنَّهُ فِي أُمّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] وقال: {يَمْحُوْا الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39].
وإذا عرفت ما ذكرنا من الاحتمالات تحصل هاهنا حينئذ وجوه أربعة من الاحتمالات:
الاحتمال الأول: أن يقال: المراد من لفظة {تِلْكَ} الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة، فكان التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم الذي هو القرآن، وذلك لأنه تعالى وعد رسوله عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء، ولا يغيره كرور الدهر، فالتقدير أن تلك الآيات الحاصلة في سورة {الر} هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء.
الاحتمال الثاني: أن يقال: المراد أن تلك الآيات الموجودة في هذه السورة هي آيات الكتاب المخزون المكنون عند الله.
واعلم أن على هذين القولين تكون الإشارة بقولنا: {تِلْكَ} إلى آيات هذه السورة وفيه إشكال، وهو أن {تِلْكَ} يشار بها إلى الغائب، وآيات هذه السورة حاضرة، فكيف يحسن أن يشار إليه بلفظ {تِلْكَ}.
واعلم أن هذا السؤال قد سبق مع جوابه في تفسير قوله تعالى: {الم ذلك الكتاب} [البقرة: 1، 2].
الاحتمال الثالث والرابع: أن يقال: لفظ {تِلْكَ} إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن، والمراد بها: هي آيات القرآن الحكيم، والمراد أنها هي آيات ذلك الكتاب المكنون المخزون عند الله تعالى، وفي الآية قولان آخران: أحدهما: أن يكون المراد من {الكتاب الحكيم} التوراة والإنجيل، والتقدير: أن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل، والمعنى: أن القصص المذكورة في هذه السورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة والإنجيل، مع أن محمداً عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بالتوراة والإنجيل، هذه الموافقة لا يمكن إلا إذا خص الله تعالى محمداً بإنزال الوحي عليه.
والثاني: وهو قول أبي مسلم: أن قوله: {الر} إشارة إلى حروف التهجي، فقوله: {الر تِلْكَ ءايات الكتاب} يعني هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت علامات لهذا الكتاب الذي آيات به وقع التحدي. فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام الناس بالوصف المعجز، وإلا لكان اختصاصه بهذا النظم، دون سائر الناس القادرين على التلفظ بهذه الحروف محالاً.
المسألة الثانية: في وصف الكتاب بكونه حكيماً وجوه:
الأول: أن الحكيم هو ذو الحكمة بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة.
الثاني: أن يكون المراد وصف الكلام بصفة من تكلم به.
قال الأعشى:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة *** قد قلتها ليقال من ذا قالها
الثالث: قال الأكثرون {الحكيم} بمعنى الحاكم، فعيل بمعنى فاعل دليله قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس} [البقرة: 213] فالقرآن كالحاكم في الاعتقادات لتميز حقها عن باطلها، وفي الأفعال لتميز صوابها عن خطئها، وكالحاكم على أن محمداً صادق في دعوى النبوة، لأن المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام، ليست إلا القرآن الرابع: أن {الحكيم} بمعنى المحكم. والأحكام معناه المنع من الفساد، فيكون المراد منه أنه لا يمحوه الماء، ولا تحرقه النار، ولا تغيره الدهور. أو المراد منه براءته عن الكذب والتناقض.
الخامس: قال الحسن: وصف الكتاب بالحكيم، لأنه تعالى حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه، فعلى هذا {الحكيم} يكون معناه المحكوم فيه.
السادس: أن {الحكيم} في أصل اللغة: عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب، فكان وصف القرآن به مجازاً، ووجه المجاز هو أنه يدل على الحكمة والصواب، فمن حيث إنه يدل على هذه المعاني صار كأنه هو الحكيم في نفسه.


{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أن كفار قريش تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً بالرسالة والوحي، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك التعجب.
أما بيان كون الكفار تعجبوا من هذا التخصيص فمن وجوه:
الأول: قوله تعالى: {أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا وَاْصْبِرُواْ على ءالِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَئ يُرَادُ} [ص: 5، 6] وإذا بلغوا في الجهالة إلى أن تعجبوا من كون الإله تعالى واحداً، لم يبعد أيضاً أن يتعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً بالوحي والرسالة! والثاني: أن أهل مكة كانوا يقولون: إن الله تعالى ما وجد رسولاً إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب! والثالث: أنهم قالوا: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وبالجملة فهذا التعجب يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يتعجبوا من أن يجعل الله بشراً رسولاً، كما حكى عن الكفار أنهم قالوا: {أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء: 94] والثاني: أن لا يتعجبوا من ذلك بل يتعجبوا من تخصيص محمد عليه الصلاة والسلام بالوحي والنبوة مع كونه فقيراً يتيماً، فهذا بيان أن الكفار تعجبوا من ذلك.
وأما بيان أن الله تعالى أنكر عليهم هذا التعجب فهو قوله في هذه الآية: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ} فإن قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الإنكار، لأن يكون ذلك عجباً.
وإنما وجب إنكار هذا التعجب لوجوه:
الأول: أنه تعالى مالك الخلق وملك لهم والمالك والملك هو الذي له الأمر والنهي والإذن والمنع. ولا بد من إيصال تلك التكاليف إلى أولئك المكلفين بواسطة بعض العباد. وإذا كان الأمر كذلك كان إرسال الرسول أمراً غير ممتنع، بل كان مجوزاً في العقول.
الثاني: أنه تعالى خلق الخلق للاشتغال بالعبودية كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2] وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى} [الأعلى: 14، 15] ثم إنه تعالى أكمل عقولهم ومكنهم من الخير والشر، ثم علم تعالى أن عباده لا يشتغلون بما كلفوا به، إلا إذا أرسل إليهم رسولاً ومنبهاً. فعند هذا يجب وجوب الفضل والكرم والرحمة أن يرسل إليهم ذلك الرسول، وإذا كان ذلك واجباً فكيف يتعجب منه.
الثالث: أن إرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى شيئاً من أزمنة وجود المكلفين منه، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ} [يوسف: 109] فكيف يتعجب منه مع أنه قد سبقه النظير، ويؤكده قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} [الأعراف: 59] وسائر قصص الأنبياء عليهم السلام.
الرابع: أنه تعالى إنما أرسل إليهم رجلاً عرفوا نسبه وعرفوا كونه أميناً بعيداً عن أنواع التهم والأكاذيب ملازماً للصدق والعفاف. ثم إنه كان أمياً لم يخالط أهل الأديان، وما قرأ كتاباً أصلاً ألبتة، ثم إنه مع ذلك يتلو عليهم أقاصيصهم ويخبرهم عن وقائعهم، وذلك يدل على كونه صادقاً مصدقاً من عند الله، ويزيل التعجب، وهو من قوله: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الاميين رَسُولاً مّنْهُمْ} [الجمعة: 2] وقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كتاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] الخامس: أن مثل هذا التعجب كان موجوداً عند بعثة كل رسول، كما في قوله: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [لأعراف: 65] {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا} [الأعراف: 73] إلى قوله: {أوعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ على رَجُلٍ مّنْكُمْ} [الأعراف: 63] السادس: أن هذا التعجب إما أن يكون من إرسال الله تعالى رسولاً من البشر، أو سلموا أنه لا تعجب في ذلك، وإنما تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام بالوحي والرسالة.
أما الأول: فبعيد لأن العقل شاهد بأن مع حصول التكليف لابد من منبه ورسول يعرفهم تمام ما يحتاجون إليه في أديانهم كالعبادات وغيرها.
وإذا ثبت هذا فنقول: الأولى أن يبعث إليهم من كان من جنسهم ليكون سكونهم إليه أكمل والفهم به أقوى، كما قال تعالى: {وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} [الأنعام: 9] وقال: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً} [الإسراء: 95].
وأما الثاني: فبعيد لأن محمداً عليه الصلاة والسلام كان موصوفاً بصفات الخير والتقوى والأمانة، وما كانوا يعيبونه إلا بكونه يتيماً فقيراً، وهذا في غاية البعد، لأنه تعالى غني عن العالمين فلا ينبغي أن يكون الفقر سبباً لنقصان الحال عنده، ولا أن يكون الغنى سبباً لكمال الحال عنده. كما قال تعالى: {وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} [سبأ: 37] فثبت أن تعجب الكفار من تخصيص الله تعالى محمداً بالوحي والرسالة كلام فاسد.
المسألة الثانية: الهمزة في قوله: {أَكَانَ} لإنكار التعجب ولأجل التعجيب من هذا التعجب و{أَنْ أَوْحَيْنَا} اسم كان وعجباً خبره، وقرأ ابن عباس {عجب} فجعله اسماً وهو نكرة و{أَنْ أَوْحَيْنَا} خبره وهو معرفة كقوله: يكون مزاجها عسل وماء. والأجود أن تكون كان تامة، وأن أوحينا، بدلاً من عجب.
المسألة الثالثة: أنه تعالى قال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} ولم يقل أكان عند الناس عجباً، والفرق أن قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه وعينوه لتوجيه الطيرة والاستهزاء والتعجب إليه! وليس في قوله: أكان عند الناس عجباً هذا المعنى.
المسألة الرابعة: {أن} مع الفعل في قولنا: {أَنْ أَوْحَيْنَا} في تقدير المصدر وهو اسم كان وخبره، هو قوله: {عَجَبًا} وإنما تقدم الخبر على المبتدأ هاهنا لأنهم يقدمون الأهم، والمقصود بالإنكار في هذه الآية إنما هو تعجبهم، وأما {أن} في قوله: {أَنْ أَنذِرِ الناس} فمفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس.
المسألة الخامسة: أنه تعالى لما بين أنه أوحى إلى رسوله، بين بعده تفصيل ما أوحى إليه وهو الإنذار والتبشير.
أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي، وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها.
وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي.
المسألة السادسة: قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ} فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال المفسرين.
أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في البسيط منها وجوهاً.
قال الليث وأبو الهيثم: القدم السابقة، والمعنى: أنهم قد سبق لهم عند الله خير.
قال ذو الرمة:
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة *** لهم قدم معروفة ومفاخر
وقال أحمد بن يحيى: القدم كل ما قدمت من خير، وقال ابن الأنباري: القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه، ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء.
واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني، أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم، فسمى المسبب باسم السبب، كما سميت النعمة يداً، لأنها تعطى باليد.
فإن قيل: فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه: {قَدَمَ صِدْقٍ}.
قلنا: الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة، وقال بعضهم: المراد مقام صدق.
وأما المفسرون فلهم أقوال فبعضهم حمل {قَدَمَ صِدْقٍ} على الأعمال الصالحة؛ وبعضهم حمله على الثواب، ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام، واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد:
صل لذي العرش واتخذ قدما *** بنجيك يوم العثار والزلل
المسألة السابعة: أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند الله تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين {إِنَّ هذا لساحر مُّبِينٌ} أي إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر. والابتداء بقوله: {قَالَ الكافرون} على تقدير فلما أنذرهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين، قال القفال: وإضمار هذا، غير قليل في القرآن.
المسألة الثامنة: قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي {إِنَّ هذا لساحر} والمراد منه محمد صلى الله عليه وسلم، والباقون {لسحر} والمراد به القرآن.
واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحراً يدل على عظم محل القرآن عندهم، وكونه معجزاً. وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة، فاحتاجوا إلى هذا الكلام.
واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحراً، يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح، فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه. فقال بعضهم: أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر، ولكنه باطل في الحقيقة، ولا حاصل له، وقال أخرون: أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله، جار مجرى السحر.
واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه، وإنما قلنا إنه في غاية الفساد، لأنه صلى الله عليه وسلم كان منهم، ونشأ بينهم وما غاب عنهم، وما خالط أحداً سواهم، وما كانت مكة بلدة العلماء والأذكياء، حتى يقال: إنه تعلم السحر أو تعلم العلوم الكثيرة منهم فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن. وإذا كان الأمر كذلك، كان حمل القرآن على السحر كلاماً في غاية الفساد، فلهذا السبب ترك جوابه.


{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)}
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة، ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد ألبتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولاً يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب، وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب، كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين: أحدهما: إثبات أن لهذا العالم إلهاً قاهراً قادراً نافذاً الحكم بالأمر والنهي والتكليف.
والثاني: إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما، فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.
أما الأول: وهو إثبات الإلهية، فبقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض}.
وأما الثاني: وهو إثبات المعاد والحشر والنشر. فبقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّا} [يونس: 4] فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن، ونهاية الكمال. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا في هذا الكتاب، وفي الكتب العقلية أن الدليل الدال على وجود الصانع تعالى، إما الامكان وإما الحدوث وكلاهما إما في الذوات وإما في الصفات، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجود الصانع أربعة، وهي إمكان الذوات، وإمكان الصفات، وحدوث الذوات، وحدوث الصفات. وهذه الأربعة معتبرة تارة في العالم العلوي وهو عالم السموات والكواكب، وتارة في العالم السفلي، والأغلب من الدلائل المذكورة في الكتب الإلهية التمسك بإمكان الصفات وحدوثها تارة في أحوال العالم العلوي، وتارة في أحوال العالم السفلي، والمذكور في هذا الموضع هو التمسك بإمكان الأجرام العلوية في مقاديرها وصفاتها، وتقريره من وجوه:
الأول: أن أجرام الأفلاك لا شك أنها مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى، ومتى كان الأمر كذلك كانت لا محالة محتاجة إلى الخالق والمقدر.
أما بيان المقام الأول: فهو أن أجرام الأفلاك لا شك أنها قابلة للقسمة الوهمية، وقد دللنا في الكتب العقلية على أن كل ما كان قابلاً للقسمة الوهمية، فإنه يكون مركباً من الأجزاء والأبعاض. ودللنا على أن الذي تقوله الفلاسفة من أن الجسم قابل للقسمة، ولكنه يكون في نفسه شيئاً واحداً كلام فاسد باطل. فثبت بما ذكرنا أن أجرام الأفلاك مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى، وإذا ثبت هذا وجب افتقارها إلى خالق ومقدر، وذلك لأنها لما تركبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم، وبعضها حصلت على سطحها، وتلك الأجزاء متساوية في الطبع والماهية والحقيقة، والفلاسفة أقروا لنا بصحة هذه المقدمة حيث قالوا إنها بسائط، ويمتنع كونها مركبة من أجزاء مختلفة الطبائع.
وإذا ثبت هذا فنقول: حصول بعضها في الداخل، وحصول بعضها في الخارج، أمر ممكن الحصول جائز الثبوت، يجوز أن ينقلب الظاهر باطناً، والباطن ظاهراً. وإذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبر وقاهر، يخصص بعضها بالداخل وبعضها بالخارج فدل هذا على أن الأفلاك مفتقرة في تركيبها وأشكالها وصفاتها إلى مدبر قدير عليم حكيم.
الوجه الثاني: في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر أن نقول: حركات هذه الأفلاك لها بداية، ومتى كان الأمر كذلك افتقرت هذه الأفلاك في حركاتها إلى محرك ومدبر قاهر.
أما المقام الأول: فالدليل على صحته أن الحركة عبارة عن التغير من حال إلى حال، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها، والأزل ينافي المسبوقية بالغير، فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالاً، فثبت أن لحركات الأفلاك أولاً، وإذا ثبت هذا وجب أن يقال: هذه الأجرام الفلكية كانت معدومة في الأزل وإن كانت موجودة، لكنها كانت واقفة وساكنة. وما كانت متحركة، وعلى التقديرين: فلحركاتها أول وبداية.
وأما المقام الثاني: وهو أنه لما كان الأمر كذلك وجب افتقارها إلى مدبر قاهر، فالدليل عليه أن ابتداء هذه الأجرام بالحركة ذلك الوقت المعين دون ما قبله ودون ما بعده، لابد وأن يكون لتخصيص مخصص، وترجيح مرجح. وذلك المرجح يمتنع أن يكون موجباً بالذات، وإلا لحصلت تلك الحركة قبل ذلك الوقت لأجل أن موجب تلك الحركة كان حاصلاً قبل ذلك الوقت، ولما بطل هذا، ثبت أن ذلك المرجح قادر مختار وهو المطلوب.
الوجه الثالث: في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله المختار، وهو أن أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر، وأجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأول. فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن، ولا بد له من مرجح، ويعود التقرير الأول فيه. فهذا تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أن كلمة {الذى} كلمة وضعت للإشارة إلى شيء مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة، كما إذا قيل لك من زيد؟ فتقول: الذي أبوه منطلق، فهذا التعريف إنما يحسن لو كان كون أبيه منطلقاً، أمراً معلوماً عند السامع، فهنا لما قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} فهذا إنما يحسن لو كان كونه سبحانه وتعالى خالقاً للسموات والأرض في ستة أيام، أمراً معلوماً عند السامع، والعرب ما كانوا عالمين بذلك، فكيف يحسن هذا التعريف؟
وجوابه أن يقال: هذا الكلام مشهور عند اليهود والنصارى، لأنه مذكور في أول ما يزعمون أنه هو التوراة. ولما كان ذلك مشهوراً عندهم والعرب كانوا يخالطونهم، فالظاهر أنهم أيضاً سمعوه منهم، فلهذا السبب حسن هذا التعريف.
السؤال الثاني: ما الفائدة في بيان الأيام التي خلقها الله فيها؟
والجواب: أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر. والدليل عليه أن العالم مركب من الأجزاء التي لا تتجزى، والجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إيجاده إلا دفعة، لأنا لو فرضنا أن إيجاده إنما يحصل في زمان، فذلك الزمان منقسم لا محالة من آنات متعاقبة، فهل حصل شيء من ذلك الإيجاد في الآن الأول أو لم يحصل، فإن لم يحصل منه شيء في الآن الأول فهو خارج عن مدة الإيجاد، وإن حصل في ذلك الآن إيجاد شيء وحصل في الآن الثاني إيجاد شيء آخر، فهما إن كانا جزأين من ذلك الجزء الذي لا يتجزى، فحينئذ يكون الجزء الذي لا يتجزى متجزئاً. وهو محال. وإن كان شيئاً آخر، فحينئذ يكون إيجاد الجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إلا في آن واحد دفعة واحدة، وكذا القول في إيجاد جميع الأجزاء. فثبت أنه تعالى قادر على إيجاد جميع العالم دفعة واحدة، ولا شك أيضاً أنه تعالى قادر على إيجاده وتكوينه على التدريج.
وإذا ثبت هذا فنقول هاهنا مذهبان: الأول: قول أصحابنا وهو أنه يحسن منه كلما أراد، ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح، وعلى هذا القول يسقط قول من يقول: لم خلق العالم في ستة أيام وما خلقه في لحظة واحدة؟ لأنا نقول كل شيء صنعه ولا علة لصنعه فلا يعلل شيء من أحكامه ولا شيء من أفعاله بعلة، فسقط هذا السؤال.
الثاني: قول المعتزلة وهو أنهم يقولون يجب أن تكون أفعاله تعالى مشتملة على المصلحة والحكمة. فعند هذا قال القاضي: لا يبعد أن يكون خلق الله تعالى السموات والأرض في هذه المدة المخصوصة، أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين. ثم قال القاضي:
فإن قيل: فمن المعتبر وما وجه الاعتبار؟ ثم أجاب وقال: أما المعتبر فهو أنه لابد من مكلف أو غير مكلف من الحيوان خلقه الله تعالى قبل خلقه للسموات والأرضين، أو معهما، وإلا لكان خلقهما عبثاً.
فإن قيل: فهلا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد؟!
قلنا: إنه تعالى لا يخاف الفوت، فلا يجوز أن يقدم خلق ما لا ينتفع به أحد، لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك، وإنما يصح منا ذلك في مقدمات الأمور لأنا نخشى الفوت، ونخاف العجز والقصور. قال: وإذا ثبت هذا فقد صح ما روي في الخبر أن خلق الملائكة كان سابقاً على خلق السموات والأرض.
فإن قيل: أولئك الملائكة لابد لهم من مكان، فقبل خلق السموات والأرض لا مكان، فكيف يمكن وجودهم بلا مكان؟
قلنا: الذي يقدر على تسكين العرش والسموات والأرض في أمكنتها كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته؟ وأما وجه الاعتبار في ذلك فهو أنه لما حصل هناك معتبر، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما يشاهده حالاً بعد حال أقوى. والدليل عليه: أن ما يحدث على هذا الوجه، فإنه يدل على أنه صادر من فاعل حكيم.
وأما المخلوق دفعة واحدة فإنه لا يدل على ذلك.
والسؤال الثالث: فهل هذه الأيام كأيام الدنيا أو كما روي عن ابن عباس أنه قال: إنها ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مما تعدون؟
والجواب: قال القاضي: الظاهر في ذلك أنه تعريف لعباده مدة خلقه لهما، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً، إلا والمدة هذه الأيام المعلومة.
ولقائل أن يقول: لما وقع التعريف بالأيام المذكورة في التوراة والإنجيل، وكان المذكور هناك أيام الآخرة لا أيام الدنيا، لم يكن ذلك قادحاً في صحة التعريف.
السؤال الرابع: هذه الأيام إنما تتقدر بحسب طلوع الشمس وغروبها، وهذا المعنى مفقود قبل خلقها، فكيف يعقل هذا التعريف؟
والجواب التعريف يحصل بما أنه لو وقع حدوث السموات والأرض في مدة، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر، لكانت تلك المدة مساوية لستة أيام:
ولقائل أن يقول: فهذا يقتضي حصول مدة قبل خلق العالم، يحصل فيها حدوث العالم، وذلك يوجب قدم المدة.
وجوابه: أن تلك المدة غير موجودة بل هي مفروضة موهومة، والدليل عليه أن تلك المدة المعينة حادثة، وحدوثها لا يحتاج إلى مدة أخرى، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال، فكل ما يقولون في حدوث المدة فنحن نقوله في حدوث العالم.
السؤال الخامس: أن اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته، وقد يراد به النهار وحده. فالمراد بهذه الآية أيهما.
والجواب: الغالب في اللغة أنه يراد باليوم. اليوم بليلته.
المسألة الثانية: أما قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} ففيه مباحث: الأول: أن هذا يوهم كونه تعالى مستقراً على العرش والكلام المستقصى فيه مذكور في أول سورة طه، ولكنا نكتفي هاهنا بعبارة وجيزة. فنقول: هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن الاستواء على العرش معناه كونه معتمداً عليه مستقراً عليه، بحيث لولا العرش لسقط ونزل، كما أنا إذا قلنا إن فلاناً مستو على سريره. فإنه يفهم منه هذا هذا المعنى. إلا أن إثبات هذا المعنى يقتضي كونه محتاجاً إلى العرش، وإنه لولا العرش لسقط ونزل، وذلك محال، لأن المسلمين أطبقوا على أن الله تعالى هو الممسك للعرش والحافظ له، ولا يقول أحد أن العرش هو الممسك لله تعالى والحافظ له.
والثاني: أن قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستوياً عليه، وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال، وكل من كان متغيراً كان محدثاً، وذلك بالاتفاق باطل.
الثالث: أنه لما حدث الاستواء في هذا الوقت، فهذا يقتضي أنه تعالى كان قبل هذا الوقت مضطرباً متحركاً، وكل ذلك من صفات المحدثات.
الرابع: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض لأن كلمة (ثُمَّ) تقتضي التراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنياً عن العرش، فإذا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من الاستغناء إلى الحاجة. فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنياً عن العرش، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقراً على العرش. فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق، وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى.
المسألة الثالثة: اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسماً عظيماً هو العرش.
إذا ثبت هذا فنقول: العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره؟ فيه قولان:
القول الأول: وهو الذي اختاره أبو مسلم الإصفهاني، أنه ليس المراد منه ذلك، بل المراد من قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أنه لما خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإن كل بناء فإنه يسمى عرشاً، وبانيه يسمى عارشاً، قال تعالى: {وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] أي يبنون، وقال في صفة القرية {فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} [الحج: 45] والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها، وقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} [هود: 7] أي بناؤه، وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة، فالباني يبني البناء متباعداً عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته، والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر، والدليل عليه قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} [الزخرف: 12، 13] قال أبو مسلم: فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه. فنقول: وجب حمل اللفظ عليه، ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء، والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى، يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك، وأما أجرام السموات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزاً صواباً حسناً. ثم قال: ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى: {خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} إشارة إلى تخليق ذواتها، وقوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها، وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله سبحانه وتعالى: {أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27، 28] فذكر أولاً أنه بناها، ثم ذكر ثانياً أنه رفع سمكها فسواها. وكذلك هاهنا. ذكر بقوله: {خَلَقَ * السموات والأرض} أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها.
والقول الثاني: وهو القول المشهور لجمهور المفسرين: أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية: الجسم العظيم الذي في السماء، وهؤلاء قالوا إن قوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} [هود: 7] وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين. بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر. وهو أن يكون المراد: ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش.
والقول الثالث: أن المراد من العرش الملك، يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب، وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات، ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه المخلوقات والكائنات. والحاصل أن العرش عبارة عن الملك، وملك الله تعالى عبارة عن وجود مخلوقاته، ووجود مخلوقاته إنما حصل بعد تخليق السموات والأرض، لا جرم صح إدخال حرف {ثُمَّ} الذي يفيد التراخي على الاستواء على العرش والله أعلم بمراده.


المسألة الرابعة: أما قوله: {يُدَبّرُ الأمر} معناه أنه يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله، الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، كي لا يدخل في الوجود ما لا ينبغي. والمراد من {الأمر} الشأن يعني يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض.
فإن قيل: ما موقع هذه الجملة؟
قلنا: قد دل بكونه خالقاً للسموات والأرض في ستة أيام وبكونه مستوياً على العرش، على نهاية العظمة وغاية الجلالة. ثم أتبعها بهذه الجملة ليدل على أنه لا يحدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي أمر من الأمور ولاحادث من الحوادث، إلا بتقديره وتدبيره وقضائه وحكمه، فيصير ذلك دليلاً على نهاية القدرة والحكمة والعلم والإحاطة التدبير، وأنه سبحانه مبدع جميع الممكنات، وإليه تنتهي الحاجات.
وأما قوله تعالى: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} ففيه قولان:
القول الأول: وهو المشهور أن المراد منه أن تدبيره للأشياء وصنعه لها، لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر. ولا يستجرئ أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه، لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب، فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح.
فإن قيل: كيف يليق ذكر الشفيع بصفة مبدئية الخلق، وإنما يليق ذكره بأحوال القيامة؟
والجواب من وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره الزجاج: وهو أن الكفار الذين كانوا مخاطبين بهذه الآية كانوا يقولون: إن الأصنام شفعاؤنا عند الله، فالمراد منه الرد عليهم في هذا القول وهو كقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [النبأ: 38].
والوجه الثاني: وهو يمكن أن يقال إنه تعالى لما بين كونه إلهاً للعالم مستقلاً بالتصرف فيه من غير شريك ولا منازع، بين أمر المبدأ بقوله: {يُدَبّرُ الأمر} وبين حال المعاد بقوله: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ}.
والوجه الثالث: يمكن أيضاً أن يقال إنه تعالى وضع تدبير الأمور في أول خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من رعاية المصالح، مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في طلب تحصيل المصالح، فدل هذا على أن إله العالم ناظر لعباده محسن إليهم مريد للخير والرأفة بهم، ولا حاجة في كونه سبحانه كذلك إلى حضور شفيع يشفع فيه.
والقول الثاني: في تفسير هذا الشفيع ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، فقال: الشفيع هاهنا هو الثاني، وهو مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر، كما يقال الزوج والفرد، فمعنى الآية خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه، ثم خلق الملائكة والجن والبشر، وهو المراد من قوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} أي لم يحدث أحد ولم يدخل في الوجود، إلا من بعد أن قال له: كن، حتى كان وحصل.
واعلم أنه تعالى لما بين هذه الدلائل وشرح هذه الأحوال، ختمها بعد ذلك بقوله: {ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} مبيناً بذلك أن العبادة لا تصلح إلا له، ومنبهاً على أنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم التي ذكرها ووصفها.
ثم قال بعده: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} دالاً بذلك على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة، وذلك يدل على أن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على جلالته وعزته وعظمته، أعلى المراتب وأكمل الدرجات.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8